الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
و{مِنَ الله} متعلق به على حذف مضاف أي ليس الأمر كذلك، أو إن كان كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وإرادته شيئًا {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن في الأرض جَمِيعًا} ومن حق من يكون إلهًا أن لا يتعلق به ولا بشأن من شؤونه، بل بشيء من الموجودات قدرة غيره فضلًا عن أن يعجز عن دفع شيء منها عند تعلقها بهلاكه، فلما كان عجزه بينا لا ريب فيه ظهر كونه بمعزل عما تقولون فيه.والمراد بالإهلاك الإماتة والإعدام مطلقًا لا عن سخط وغضب، وإظهار المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية حيث ذكرت معه الصفة في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه، وقيل: وصفه بذلك للتنبيه على أنه حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة لأنه تولد من أم، وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف لزيادة تأكيد عجز المسيح، ولعل نظمها في سلك من فرض «إرادة» إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها أنموذجًا لحال بقية من فرض إهلاكه، وتعميم إرادة الإهلاك مع حصول الغرض بقصرها على عيسى عليه الصلاة والسلام لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى لا يقدر «أحد» على دفع ما أريد به فضلًا عما أريد بغيره، وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك كما أنه أسوة لهم في العجز وعدم استحقاق الألوهية.قاله المولى أبو السعود، و{جَمِيعًا} حال من المتعاطفات، وجوز أن يكون حالًا من {مِنْ} فقط لعمومها. اهـ.
فلا يأتي في هذا ما لعلماء المعاني من الخلاف في أنّ ضمير الفصل هل يفيد قصر المسند إليه، وهو الأصحّ؛ أو العكس، وهو قليل، لأنّ مقام اتّحاد المسمَّيين يسوّي الاحتمالين ويصرف عن إرادة القصر.وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة خفية قول صاحب الكشاف عقب قوله: {الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم} «معناه بتُّ القول على أنّ حقيقة الله هو المسيح لا غير».ومحلّ الشاهد من كلام الكشاف ما عدا قوله: «لا غير»، لأنّ الظاهر أن «لا غير» يشير إلى استفادة معنى القصر من مثل هذا التّركيب، وهو بعيد.وقد يقال: إنّه أراد أنّ معنى الانحصار لازم بمعنى الاتّحاد وليس ناشئًا عن صيغة قصر.ويفيد قولهم هذا أنّهم جعلوا حقيقة الإله الحقّ المعلوم متّحدة بحقيقة عيسى عليه السلام بمنزلة اتّحاد الاسمين للمسمّى الواحد، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهيّة في ذات عيسى.ولمّا كانت الحقيقة الإلهيّة معنونة عند جميع المتديّنين باسم الجلالة جَعَل القائلون اسم الجلالة المسندَ إليه، واسمَ عيسى المسند ليدلّوا على أنّ الله اتّحدَ بذات المسيح.وحكاية القول عنهم ظاهرة في أنّ هذا قالوه صراحة عن اعتقاد، إذ سرى لهم القول باتّحاد اللاهوت بناسوتتِ عيسى إلى حدّ أن اعتقدوا أنّ الله سبحانه قد اتّحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى.وهذا مبالغة في اعتقاد الحلول.وللنّصارى في تصوير هذا الحلول أو الاتّحاد أصل، وهو أنّ الله تعالى جوهر واحد، هو مجموع ثلاثة أقانيم جمع أقنوم بضمّ الهمزة وسكون القاف وهو كلمة رومية معناها: الأصل، كما في القاموس؛ وهذه الثلاثة هي أقنوم الذات، وأقنوم العلم وأقنوم الحياة، وانقسموا في بيان اتّحاد هذه الأقانيم بذات عيسى إلى ثلاثة مذاهب: مذهب المَلْكانِيَّة وهم الجاثلقية «الكاثوليك»، ومذهب النَّسْطُورية، ومذهب اليَعقوبية.وتفصيله في كتاب «المقاصد».وتقدّم مفصّلًا عند تفسير قوله تعالى: {فآمِنوا بالله ورسُله ولا تقولوا ثلاثة} في سورة [النّساء: 171].وهذا قول اليعاقبة من النصارى، وهم أتباع يعقوب البرذعاني، وكان راهبًا بالقسطنطينية، وقد حدثت مقالته هذه بعد مقالة المَلْكَانية، ويقال لِليعاقبة: أصحاب الطبيعة الواحدة، وعليها درج نصارى الحبشة كلّهم.ولا شكّ أنّ نصارى نجران كانوا على هذه الطريقة.ولقرب أصحابها الحبشة من بلاد العرب تصدّى القرآن لبيان ردّها هنا وفي الآية الآتية في هذه السورة.وقد بيّنا حقيقة معتقد النصارى في اتّحاد اللاهوت بالناسوت وفي اجتماع الأقانيم عند قوله تعالى: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} في سورة [النساء: 171].وبيّن الله لرسوله الحجّة عليهم بقوله: {قل فمن يملك من الله شيئًا} الآية، فالفاء عاطفة للاستفهام الإنكاري على قولهم: إنّ الله هو المسيح، للدلالة على أنّ الإنكار ترتّب على هذا القول الشنيع، فهي للتعقيب الذِكري، وهذا استعمال كثير في كلامهم، فلا حاجة إلى ما قيل: إنّ الفاء عاطفة على محذوف دلّ عليه السياق، أي ليس الأمر كما زعمتم، ولاَ أنّها جواب شرط مقدّر، أي إن كان ما تقولون فمن يملك من الله شيئًا، إلخ.ومعنى يملك شيئًا هنا يَقْدِر على شيء، فالمركّب مستعمل في لازم معناه على طريقة الكناية، وهذا اللازم متعدّد وهو المِلْك، فاستطاعةُ التحويل، وهو استعمال كثير ومنه قوله تعالى: {قل فمن يملك لكم من الله شيئًا إن أرادَ بكم ضَرّا} الآية في سورة [الفتح: 11].وفي الحديث قال رسول الله لعُيينة بن حِصْن أفأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة لأنّ الذي يملك يتصرّف في مملوكه كيف شاء.فالتنكير في قوله: {شيئًا} للتقليل والتحقير.ولمّا كان الاستفهام هنا بمعنى النفي كان نفي الشيء القليل مقتضيًا نفي الكثير بطريق الأولى، فالمعنى: فمن يقدر على شيء من الله، أي مِنْ فِعْله وتصرفِّه أنْ يحوّله عنه، ونظيره: {وما أغني عنكم من الله من شيء} [يوسف: 67].وسيأتي لمعنى «يملك» استعمال آخر عند قوله تعالى: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يَملك لكم ضرًّا ولا نفعًا} [المائدة: 76] في هذه السورة، وسيأتي قريب من هذا الاستعمال عند قوله تعالى: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا في هذه السورة} [المائدة: 41].وحرف الشرْط من قوله: {إن أراد} مستعمل في مجرّد التّعليق من غير دلالة على الاستقبال، لأنّ إهلاك أمّ المسيح قد وقع بلا خلاف، ولأنّ إهلاك المسيح، أي موته واقع عند المجادَلين بهذا الكلام، فينبغي إرخاءُ العنان لهم في ذلك لإقامة الحجّة، وهو أيضًا واقع في قول عند جمع من علماء الإسلام الّذين قالوا: إنّ الله أماته ورفعه دون أن يُمكَّن اليهودُ منه، كما تقدّم عند قوله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه} [النساء: 157]، وقوله: {إنّي متوفّيك ورافعك إليّ} [آل عمران: 55].وعليه فليس في تعليق هذا الشرط إشعار بالاستقبال.والمضارع المقترن بأن وهو {أن يهلك} مستعمل في مجرّد المصدرية.والمرادُ بـ {مَن في الأرض} حينئذٍ من كان في زمن المسيح وأمِّه من أهل الأرض فقد هلكوا كلّهم بالضرورة.والتّقدير: مَن يملَك أن يصدّ الله إذْ أراد إهلاك المسيح وأمّه ومن في الأرض يومئذٍ.ولك أن تلتزم كون الشرط للاستقبال باعتبار جَعْل {من في الأرض جميعًا} بمعنى نوع الإنسان، فتعليق الشرط باعتبار مجموع مفاعيل {يُهلك} على طريقة التغليب؛ فإنّ بعضها وقع هلكه وهو أمّ المسيح، وبعضها لم يقع وسيقع وهو إهلاك من في الأرض جميعًا، أي إهلاك جميع النّوع، لأنّ ذلك أمر غير واقع ولكنّه مُمكن الوقوع.والحاصل أنّ استعمال هذا الشرط من غرائب استعمال الشروط في العربية، ومرجعه إلى استعمال صيغة الشرط في معنى حقيقي ومعنى مجازي تغليبًا للمعنى الحقيقي، لأنّ {مَنْ في الأرض} يعمّ الجميع وهو الأكثر.ولم يعطه المفسّرون حقّه من البيان.وقد هلكت مريم أمّ المسيح عليهما السلام في زمن غير مضبوط بعد رفع المسيح. اهـ.
|